كلما سعى الليبيون للتفاهم وإيجاد تسويات داخلية لأزمات ليبيا، تقام بينهم الجدران وتوضع أمامهم الحواجز فيزداد تشتتهم وتصبح فرص الحرب أكثر قربا من تحقيق السلام والمصالحة الوطنية، فالمؤتمرات واللقاءات الدولية حول ليبيا لم تتوقف منذ سنة 2011 وعلى الرغم من أن فكرتها الأساسية كانت غالبا تنطلق من فكرة وقف الحرب أو تقاسم السلطة إلا أن تعدد رعاتها ومنظميها عكس عدم قدرة الأطراف الليبية خلال السنوات الماضية على إدارة خلافاتهم وإعلاء مصالحهم أمام مصالح المستفيدين من انهيار الأوضاع في ليبيا.
ما عانته ليبيا خلال السنوات الماضية من تبعات ضعف السلطات المنقسمة واستنزاف مقدراتها في الحروب وهدر قوة شبابها، قلل من ثقة الليبيين في قدرتهم على حل خلافاتهم والتوافق حول الحل السياسي والسلمي لمشاكلهم، وأصبح الاعتقاد السائد أن دورهم هو الاقتتال فيما بينهم، وأما إدارة مشاكلهم فهي مسؤولية أممية أو أجنبية، اليوم أصبح بالإمكان الحديث عن بروز إرادة وطنية يمثلها الكثير من أطراف الأزمة الليبية، تسعى للاستفادة من الجهود الدولية والإقليمية الرامية لتثبيت الاستقرار في ليبيا.
مؤتمر برلين الثاني أصبح يمثل المسار الأكثر مسؤولية لإيجاد حل دائم للمشكلة الليبية، فمؤتمر برلين الأول الذي عقد في يناير من العام الماضي كان بداية انطلاق النهج الذي رعته الدبلوماسية الألمانية واعتمد على قاعدتين رئيسيتين هما: وقف الحرب وتشكيل سلطة موحدة في ليبيا، وبعد ذلك الانتقال لمرحلة يمكن من خلالها طرد المرتزقة وسحب القوات الأجنبية، في المقابل هناك عدد من التساؤلات المنطقية التي يطرحها بعض الفاعلين في الأزمة الليبية حول طبيعة الوجود الأجنبي المؤثر بشكل مباشر على المشهد العسكري والتوازنات الميدانية.
اليوم أصبح هناك تطور حقيقي في قدرة الليبيين على المشاركة في حل أزماتهم المتواصلة، مثله وجود حكومة الوحدة الوطنية التي جاءت ضمن إطار تسوية وحوار سياسي ليبي برعاية أممية، وحصول الحكومة على ثقة نيابية بأغلبية مطلقة، وسط تفاؤل شعبي بأن تقود الحكومة البلاد خلال المرحلة الحالية لإنجاز الاستحقاق الانتخابي وكافة متطلبات المرحلة، بالإضافة إلى أن مشاركة ليبيا بسلطة موحدة في مؤتمر برلين الثاني منحها القدرة على تقديم مبادرة ليبية بامتياز تسعى لتوحيد ومأسسة جهود دعم استقرار ليبيا بما يضمن إلزام الدول المعنية بالشأن الليبي دعم هذه الجهود وتحمل مسؤولياتهم في عدم العودة بأطراف الأزمة لمربع الحرب.
التوافق المطلوب والمجدي هو بين أطراف الأزمة الليبية، على قاعدة احترام سلمية العملية السياسية، والاحتكام لصناديق الاقتراع بدلا عن التمترس في خنادق القتال، ولا يمكن الاعتماد على توافق غير الليبيين، إلا في إطار إلزامهم بما يجمعون عليه.
قد تكون المؤشرات سلبية في بعض الأحيان، ولكن إدراك الشعب الليبي للمخاطر التي تواجه وحدة البلاد تدفعه للتمسك بخيار التوافق حول رفض أي محاولات للاستيلاء على السلطة بالقوة، أو توريط ليبيا في ساحة خلافات أطراف دولية فاعلة، لا تهتم بالدرجة الأولى باستقرارها، وقد يعتقد البعض أن الليبيين أصبحوا أسرى للخوف من عدم قدرتهم على حل خلافاتهم، ولكن الواقع وتاريخ مجتمعات تعرضت للحروب والانقسامات يمنحنا فسحة أمل أنه بالإمكان تجاوز خلافاتنا والتأسيس لمرحلة يتحول فيها النزاع المسلح إلى عمل سياسي وعمل سياسي آخر مضاد أو معارض ضمن أطر السلمية والتعددية.